فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}
{ويل} لفظ يجمع الشر والحزن، وقيل {ويل}: واد في جهنم، و{الهمزة} الذي يهمز الناس بلسانه أي يعيبهم، ويغتابهم، وقال ابن عباس: هو المشاء بالنميم.
قال القاضي أبو محمد: ليس به لكنهما صفتان تتلازم، قال الله تعالى: {هماز مشاء بنميم} [القلم: 11]، وقال مجاهد: (الهمزة) الذي يأكل لحوم الناس، وقيل لأعرابي: أتهمز إسرائيل فقال: إني إذًا لرجل سوء، حسب أنه يقال له أتقع في سبه، و{اللمزة} قريب من المعنى في الهمزة، قال الله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات: 11].
وقرأ ابن مسعود والأعمش والحسن: {ويل الهمزة اللمزة}، وهذا البناء الذي هو فعلة يقتضي المبالغة في معناه، قال أبو العالية والحسن: الهمز بالحضور واللمز بالمغيب، وقال مقاتل ضد هذا، وقال مرة: هما سواء، وقال ابن أبي نجيح: الهمز باليد والعين: واللمز باللسان، وقال تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [التوبة: 58] وقيل نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق وقيل في جميل بن عامر الجمحي ثم هي تتناول كل من اتصف بهذه الصفات.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر: {جمّع} بشدة الميم، والباقون بالتخفيف، وقوله: {وعدده} معناه: أحصاه وحافظ على عدده وأن لا ينتقص، فمنعه من الخيرات ونفقة البر، وقال مقاتل: المعنى استعده وذخره وقرأ الحسن {وعدَدَه} بتخفيف الدالين، فقيل المعنى جمع مالًا وعددًا من عشرة، وقيل أراد عددًا مشددًا فحل التضعيف، وهذا قلق، وقوله: {يحسب أن ماله أخلده} معناه: يحسب أن ماله هو معنى حياته وقوامها، وأنه حفظه مدة عمره ويحفظه، ثم رد على هذه الحسبة وأخبر إخبارًا مؤكدًا أنه ينبذ {في الحطمة} أي التي تحطيم ما فيها وتلتهبه، وقرأ: {يحسَب} بفتح السين الأعرج وأبو جعفر وشيبة.
وقرأ ابن محيصن والحسن بخلاف عنه: {لينبذان} بنون مكسورة مشددة قبلها ألف، يعني هو ماله، وروي عنه ضم الذال على نبذ جماعة هو ماله وعدده، أو يريد جماعة الهمزات ثم عظم شأنها وأخبر أنها {نار الله الموقدة} التي يبلغ إحراقها القلوب ولا يخمد، والفؤاد القلب، ويحتمل أن يكون المعنى أنها لا يتجاوزها أحد حتى تأخذه بواجب عقيدة قلبه ونيته فكأنها متطلعة على القلوب باطلاع الله تعالى إياها، ثم أخبر بأنها عليهم موصدة ومعناه مطبقة أو مغلقة، قال علي بن أبي طالب: أبواب النار بعضها فوق بعض، وقوله تعالى: {في عمد} هو جمع عمود كأديم وأدم، وهي عند سبيويه أسماء جمع لا جموع جارية على الفعل.
وقرأ ابن مسعود: {موصدة بعمد ممدّدة}، وقال ابن زيد: المعنى في عمد حديد مغلولين بها والكل من نار، وقال أبو صالح: هذه النار هي في قبورهم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: {عُمُد} بضم العين والميم.
وقرأ الباقون وحفق عن عاصم بفتحهما.
وقرأ الجمهور: {ممددةٍ} بالخفض على نعت العمد.
وقرأ عاصم: {ممددة} بالرفع على اتباع {موصدة}.
نجز تفسيرها بحمد الله. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}
قوله تعالى: {ويل لكل هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} اختلفوا في الهُمَزَة واللُّمَزَة هل هما بمعنى واحد، أم مختلفان؟ على قولين:
أحدهما: أنهما مختلفان.
ثم فيهما سبعة أقوال.
أحدها: أن الهُمَزَة: المُغْتَاب، واللُّمَزَة: العيَّاب، قاله ابن عباس.
والثاني: أن الهُمَزَة: الذي يهمز الإنسان في وجهه.
واللُّمَزَة: يَِلْمِزُه إذا أدبر عنه، قاله الحسن، وعطاء، وأبو العالية.
والثالث: أن الهُمَزَة: الطعَّان في الناس، واللُّمَزَة: الطعَّان في أنساب الناس، قاله مجاهد.
والرابع: أن الهُمَزَة: بالعين، واللُّمَزَة: باللسان، قاله قتادة.
والخامس: أن الهُمَزَة: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللُّمَزَة: الذي يَلْمِزهم بلسانه، قاله ابن زيد.
والسادس: أن الهُمَزَة: الذي يهمز بلسانه، واللُّمَزَة: الذي يلمز بعينه، قاله سفيان الثوري.
والسابع: أن الهُمَزَة: المغتاب، واللُّمَزَة: الطاعن علي الإنسان في وجهه، قاله مقاتل.
والقول.
الثاني: أن الهُمَزَة: العَيَّاب الطعان، واللُّمَزَة مثله.
وأصل الهمز واللمز: الدفع، قاله ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج: الهُمَزَة اللُّمَزَة: الذي يغتاب الناس ويَغُضُّهم.
قال الشاعر:
إذا لَقِيتُكَ عَنْ كُرْهٍ تُكَاشِرُني ** وإن تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ

قوله تعالى: {الذي جمع مالًا} قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وروح {جَمَّع} بالتشديد.
والباقون بالتخفيف. قوله تعالى: {وَعَدَّده} قرأ الجمهور بتشديد الدال.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وابن يعمر بتخفيفها، وللمفسرين في معنى الكلام قولان.
أحدهما: أحصى عَدَدَه، قاله السدي.
والثاني: أَعَدَّه لما يكفيه في السِّنين، قاله عكرمة.
قال الزجاج: من قرأ {عدَّده} بالتشديد، فمعناه: عدَّده للدهور، ومن قرأ: {عَدَدَه} بالتخفيف، فمعناه: جمع مالًا وَعَدَدًا. أي: وقومًا اتخذهم أنصارًا.
قوله تعالى: {يحسب أنَّ ماله أخلده} أخلده بمعنى يخلده، والمعنى: يظن ماله مانعًا له من الموت، فهو يعمل عمل من لا يظن أنه يموت {كلا} أي: لا يخلده ماله ولا يبقى له {ليُنْبَذَنَّ} أي: ليُطْرَحَنَّ {في الحطمة} وهو اسم من أسماء جهنم.
سميت بذلك لأنها تحطم ما يُلقى فيها، أي: تكسره، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم.
ويقال للرجل الأكول: إنه لَحُطَمة.
وقرأ أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي عبلة، وابن محيصن، {لينبذانِّ} بألف ممدودة، وبكسر النون، وتشديدها، أي: هو وماله.
قوله تعالى: {التي تَطَّلع على الأفئدة} أي: تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها، قال الفراء: يبلغ ألمها الأفئدةَ.
والاطِّلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعَت أرضنا؟ أي: بلغتَ.
وقال ابن قتيبة: تَطَّلع على الأفئدة، أي: توفي عليها وتشرف.
وخص الأفئدة، لأن الألماذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه، فأخبر أنهم في حال من يموت، وهم لا يموتون.
وقد ذكرنا تفسير {المؤصدة} في سورة [البلد: 20].
قوله تعالى: {في عَمَدٍ} قرأ حمزة، وخلف، والكسائي، وعاصم إلا حفصًا بضم العين، وإسكان الميم.
قال المفسرون: وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. و{في} بمعنى الباء. والمعنى: مطبَقة بعُمُدٍ.
قال قتادة: وكذلك هو في قراءة عبد الله.
وقال مقاتل: أُطبقت الأبواب عليهم، ثم شُدَّت بأوتادٍ من حديد، حتى يرجع عليهم غَمُّها وحَرُّها. و{ممدَّدة} صفة العُمُد، أي: أنها ممدودة مطوّلة، وهي أرسخ من القصيرة.
وقال قتادة: هي عُمُدٌ يعذَّبون بها في النار.
وقال أبو صالح: {في عَمَدٍ مُمَدَّدة} قال: القيود الطوال. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)}
قد تقدّم القول في {الويل} في غير موضع، ومعناه الخِزي والعذاب والهَلَكة.
وقيل: وادٍ في جهنم.
{لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} قال ابن عباس: هم المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب؛ فعلى هذا هما بمعنى.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «شِرار عبادِ الله تعالى المَشَّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب» وعن ابن عباس أن الهُمَزَة: القَتّات، واللُّمزة: العياب.
وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رَباح: الهمزة: الذي يغتاب ويَطْعُن في وجه الرجل، واللمزة: الذي يغتابه مِن خلفه إذا غاب؛ ومنه قول حسان:
هَمَزْتُكَ فاخْتَضَعْتَ بذُل نفسٍ ** بِقافِيةٍ تَأَجَّجُ كالشُّوَاظِ

واختار هذا القول النحاس، قال: ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58].
وقال مُقاتل ضدّ هذا الكلام: إن الهُمَزَة: الذي يَغتابُ بالغَيبة، واللُّمَزة: الذي يغتاب في الوجه.
وقال قتادة ومجاهد: الهُمَزة: الطَّعَّان في الناس، واللُّمَزة: الطَّعَّان في أنسابهم.
وقال ابن زيد: الهامز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللُّمَزة: الذي يَلْمِزهم بلسانه ويعيبهم.
وقال سفيان الثورِيّ: يهمِز بلسانه، ويلمِز بعينيه.
وقال ابن كيسان: الهُمَزَة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه.
وقال مرة: هما سواء؛ وهو القَتَّات الطَّعَّان للمرء إذا غاب.
وقال زياد الأعجم:
تُدْلِي بِوُدِّي إِذا لاقيتَنِي كَذِبًا ** وإِنْ أُغَيَّبْ فانت الهامزُ اللُّمَزهْ

وقال آخر:
إذا لقِيتكَ عن سُخْطٍ تُكاشِرُنِي ** وإِن تَغَيَّبتُ كنتُ الهامِزَ اللُمَزَهْ

الشحط: البعد.
والهُمَزة: اسم وضِع للمبالغة في هذا المعنى؛ كما يقال: سُخَرَةٌ وضُحكَة: للذي يَسخَر ويَضْحك بالناس.
وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج {هُمْزَة لُمْزَة} بسكون الميم فيهما.
فإن صح ذلك عنهما، فهي في معنى المفعول، وهو الذي يتعرّض للناس حتى يَهْمِزوه ويضحكوا منه، ويحملهم على الاغتياب.
وقرأ عبد الله بن مسعود وأبو وائل والنخَعيّ والأعمش: {ويْلٌ لِلْهُمَزَةِ اللُّمَزَةِ}. وأصل الهمز: الكسر، والعَضّ على الشيء بعنف؛ ومنه همز الحرف.
ويقال: همزت رأسه. وهمزت الجوز بكفي كسرته. وقيل لأعرابيّ: أتهمزون (الفارة)؟ فقال: إنما تهمزها الهِرّة.
الذي في الصحاح: وقيل لأعرابي أتهمز الفارة؟ فقال السنور يهمزها.
والأوّل قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهِرّ يسمى الهمزة.
قال العجاج:
ومَنْ هَمَزْنَا رأسَهُ تَهَشَّما

وقيل: أصل الهمز واللمز: الدفع والضرب.
لَمَزَهُ يَلْمِزه لَمْزًا: إذا ضربه ودفعه.
وكذلك هَمَزَهُ: أي دفعه وضربه.
قال الراجز:
ومَنْ هَمَزْنَا عِزَّهُ تَبَرْكَعا ** على استه زَوْبَعَةً أو زَوْبَعَا

البركعة: القيام على أربع.
وبركعهُ فتبركع؛ أي صرعه فوقع على استه؛ قاله في الصحاح.
والآية نزلت في الأخنس بن شَريق، فيما رَوى الضحاك عن ابن عباس.
وكان يَلْمز الناس ويعيبهم: مقبلين ومدبرين.
وقال ابن جُرَيج: في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويقدح فيه في وجهه.
وقيل: نزلت في أُبَيّ بن خَلَف.
وقيل: في جميل بن عامر الثقفيّ.
وقيل: إنها مرسلة على العموم من غير تخصيص؛ وهو قول الأكثرين.
قال مجاهد: ليست بخاصة لأحد، بل لكل من كانت هذه صفته.
وقال الفرّاء: يجوز أن يذكر الشيء العام ويقصد به الخاصّ، قصدَ الواحد إذا قال: لا أزورك أبدًا.
فتقول: من لم يزرني فلست بزائره؛ يعني ذلك القائل.
{الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)}
أي أعدّه زعم لنوائب الدهر؛ مثل كَرُمَ وأكرم.
وقيل: أحصى عدده؛ قاله السديّ.
وقال الضحاك: أي أعدّ ماله لمن يرثه من أولاده.
وقيل: أي فاخر بعدده وكثرته.
والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة.
كما قال: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} [القلم: 12]، وقال: {وَجَمَعَ فأوعى} [المعارج: 18].
وقراءة الجماعة {جَمَع} مخفف الميم.
وشدّدها ابن عامر وحمزة والكسائيّ على التكثير.
واختاره أبو عُبيد؛ لقوله: {وَعَدَّدَه}.
وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية {جَمَع} مخففًا، {وعَدَدَه} مخففًا أيضًا؛ فأظهروا التضعيف، لأن أصله عَدَّه وهو بعيد؛ لأنه وقع في المصحف بدالين.
وقد جاء مثله في الشعر؛ لما أبرزوا التضعيف خففوه.
قال:
مَهْلًا أمامةُ قد جَرَّبْتِ منْ خلقي ** إنِّي أَجُودُ لأِقْوامٍ وإِنْ ضنِنُوا

أراد: ضَنُّوا وبخِلوا، فأظهر التضعيف؛ لكن الشعر موضع ضرورة.
قال المهدوِيّ: من خفف {وعدّده} فهو معطوف على المال؛ أي وجمع عدده فلا يكون فعلًا على إظهار التضعيف؛ لأن ذلك لا يستعمل إلا في الشعر.
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
قوله تعالى: {يَحْسَبُ} أي يظنّ {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يبقيه حيًا لا يموت؛ قاله السُّدِّيّ.
وقال عكرمة: أي يزيد في عمره.
وقيل: أحياه فيما مضى، وهو ماضٍ بمعنى المستقبل.
يقال: هلك والله فلان ودخل النار؛ أي يدخل.
{كَلاَّ} ردّ لما توهمه الكافر؛ أي لا يَخْلُد ولا يَبقَى له مال.
وقد مضى القول في {كَلاّ} مستوفى.
وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرة: إذا سمعت الله عز وجل يقول: {كَلاَّ} فإنه يقول كذبت.
{لَيُنبَذَنَّ} أي ليطرحنّ وليلقين.
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد، وحُمَيد وابن محيصن: لَيَنْبَذَانِّ بالتثنية، أي هو وماله.
وعن الحسن أيضًا {لَيُنْبَدَنَّهُ} على معنى لَيُنْبَذَنّ مالُه.
وعنه أيضًا بالنون {لَنَنْبِذَنَّهُ} على إخبار الله تعالى عن نفسه، وأنه يَنْبِذ صاحب المال.
وعنه أيضًا {لَيُنْبَذُنَّ} بضم الذال؛ على أن المراد الهمزة واللمزة والمال وجامعه.
{فِي الحطمة} وهي نار الله؛ سُمّيت بذلك لأنها تكسر كل ما يُلْقى فيها وتحطمه وتَهْشمُه.
قال الراجز:
إِنا حَطَمْنا بالقَضيبِ مُصْعَبَا ** يَومَ كَسَرْنا أَنْفَه لِيغضبَا

وهي الطبقة السادسة من طبقات جهنم. حكاه الماوردي عن الكلبي.
وحَكى القشيري عنه: {الحُطَمة} الدَّرَكة الثانية من درك النار.
وقال الضحاك: وهي الدرك الرابع. ابن زيد: اسم من أسماء جهنم.
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} على التعظيم لشأنها، والتفخيم لأمرها.
ثم فسرها ما هي فقال: {نَارُ الله الموقدة} أي التي أُوقد عليها ألفَ عام، وألف عام، وأَلْف عام؛ فهي غير خامدة، أعدّها الله للعصاة.
{التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما في أجسادهم، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد، خلقوا خلقا جديدًا، فرجعت تأكلهم.
وكذا روى خالد بن أبي عمران عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أن النار تأكل أهلها، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صَدَروا تعود، فذلك قوله تعالى: {نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة}». وخص الأفئدة لأن الألماذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه.
أي إنه في حال من يموت وهم لا يموتون؛ كما قال الله تعالى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] فهم إذًا أحياء في معنى الأموات.
وقيل: معنى {تَطَّلِعُ على الأَفْئِدةِ} أي تعلم مقدار ما يستحقُّه كل واحد منهم من العذاب؛ وذلك بما استبقاه الله تعالى من الأمارة الدالة عليه.
ويقال: اطَّلَع فلان على كذا: أي علمه.
وقد قال الله تعالى: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى} [المعارج: 17].
وقال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].
فوصفها بهذا، فلا يبعد أن توصف بالعلم.
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مؤصدة (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
أي مُطْبَقة؛ قاله الحسن والضحاك.
وقد تقدّم في سورة (البلد) القول فيه.
وقيل: مُغلقة؛ بلغة قريش. يقولون: آصَدْتُ الباب: إذا أغلقته؛ قاله مجاهد.
ومنه قول عُبيد الله بن قيس الرقيات:
إنَّ في القَصْرِ لَوْ دَخَلْنَا غَزَالًا ** مُصْفَقًا مُوصَدًا عليهِ الحِجابُ

{فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} الفاء بمعنى الباء؛ أي موصدة بعمد ممدّدة، قاله ابن مسعود؛ وهي في قراءته {بِعَمَدٍ مُمَدَّدةٍ} وفي حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ إنَّ الله يبْعَثُ إلَيهِمْ ملائكة بأطباق من نار، ومسامير من نار وعَمَد من نار، فتطبق عليهم بتلك الأطباق، وتشدّ عليهم بتلك المسامير، وتمدّ بتلك العَمد، فلا يَبْقى فيها خَللْ يدخل فيه رَوْح، ولا يخرج منه غمّ، وينساهم الرحمن على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يستغيثون بعدها أبدًا، وينقطع الكلام، فيكون كلامهم زَفِيرًا وشهيقًا؛ فذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ}».
وقال قتادة: {عَمَد} يعذبون بها.
واختاره الطبريّ، وقال ابن عباس: إن العَمَد الممدّدة أغلال في أعناقهم، وقيل: قيود في أرجلهم؛ قاله أبو صالح، وقال القشيريّ: والمعظم على أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار.
وتشدّ تلك الأطباق بالأوتاد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يدخل عليهم رَوْحٌ، وقيل: أبواب النار مطبقة عليهم وهم في عَمَد؛ أي في سلاسل وأغلالٍ مطوّلة، وهي أحكم وأرسخ من القصيرة.
وقيل: هم في عمد ممدّدة؛ أي في عذابها وآلامها يُضْربون بها، وقيل: المعنى في دهر ممدود؛ أي لا انقطاع له.
وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم {فِي عُمُدٍ} بضم العين والميم: جمع عمود، وكذلك {عَمَد} أيضًا.
قال الفراء: والعَمَد والعُمُد: جمعان صحيحان لعمود؛ مثل أدِيم وأَدَم وأُدُم، وأَفِيق وأَفقٍ وأُفُقٍ، أبو عُبيدة: عَمَد: جمع عِماد؛ مثل إهاب، واختار أبو عُبيد {عَمَد} بفتحتين.
وكذلك أبو حاتم؛ اعتبارًا بقوله تعالى: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] وأجمعوا على فتحها، قال الجوهريّ: العمود: عمود البيت، وجمع القلة: أعمدة، وجمع الكثرة عُمُد، وعَمَد؛ وقرئ بهما قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ}.
وقال أبو عبيدة: العمود، كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء مثل العِماد. عَمَدْت الشيء فانعمد؛ أي أقمته بِعِماد يعتمِد عليه. وأعمدته جعلت تحته عَمَدًا.
والله أعلم. اهـ.